( التربية الصالحة للصغار )
لقد حرص المسلمون على تنظيم الأسرة وفق توزيع الحقوق، وتحديد الواجبات، وأحاطها بسياجات من الأحكام التي تكفل لها السعادة والمستقبل المشرق، وتحفظها من زعازع الأهواء وعناصر الهدم والتدمير.
فالأسرة في الإسلام قيِّمةٌ في نفسها، عاليةٌ في أهدافها وغاياتها، وإن من وظائف الأسرة التي عُني الإسلام بتحقيقها هو أنها المحضن الطبَعي الذي يتولى حماية الناشئة ورعايتها، وتنمية أجسادها وعقولها وأرواحها، وفي ظلها تتلقى مشاعر الحب والرحمة والتكافل، وعلى ضوء صلاح الأسرة تصلُح الناشئة، وعلى وفق فسادها تفسُد الرعية، ولهذا أثبتت التجارب العملية أن أي جهازٍ آخر غير جهاز الأسرة لا يُعوِّض عنها، ولا يقوم مقامها.
ومن هذا المنطلق؛ فإن من الواجبات الكبرى والفرائض العظمى في الإسلام: القيام بتربية الأولاد تربيةً إسلامية، وتنشئتهم تنشئة صالحة تقودهم للآداب الحميدة والأخلاق الإسلامية، وتسير بهم نحو المعالي ومدارج المراقي، ربُّنا - جل وعلا - يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]، قال المُفسِّرون: أي: أن يؤدِّب المسلم أولاده ونفسه، فيأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر.
ومن مضامين الأمانة المُلقاة على العواتق: توجيه الأولاد نحو القِيَم المُثْلى، وإرشادهم إلى الأخلاق العُليا، والاهتمام بهم وفق تربية شاملة مادية، وجسدية، ونفسية، وروحية، وعقلية، وسلوكية، واجتماعية، ليكون الولد ناشئًا نشأة طيبة من جميع الوجوه التي تتطلبها الحياة الطيبة والعيشة السعيدة، لتحيا الذرية - حينئذٍ - حياةً تتميز بالسُّمْعة الطيبة، وتتبوَّأ بالمكانة العالية.
روى أحمد، والترمذي، والحاكم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما نحَلَ والدٌ ولدَهُ أفضل من أدبٍ حسن)).
وإن من حقوق الأولاد بمقتضى أمر الله - جل وعلا -، وتوجيه رسوله - صلى الله عليه وسلم -: أن يرعى الوالدان أولادهما بتعليم أحكام الله - جل وعلا -، وإرشادهم إلى تعاليم الإسلام وآدابه، فربُّنا - جل وعلا - يقول لنبيِّه آمرًا لأمته: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132]، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرِّقوا بينهم في المضاجع))؛ رواه أحمد، وأبو داود بسندٍ صحيح، ويقول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الجانب: ((خيرُكم من تعلَّم القرآن وعلَّمه))؛ رواه البخاري.
وعليٌّ - رضي الله عنه - وهو أحد تلامذة مدرسة النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (أدِّبوا أولادكم على ثلاث خِصال: حبِّ نبيِّكم محمد - صلى الله عليه وسلم -، وحبِّ آل بيته، وقراءة القرآن)، وفي هذا النموذج رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يُوجِّه لابن عمِّه ابن العباس - وهو غلامٌ صغير -، فيقول: ((يا غلام ! إني أُعلِّمُك كلماتٍ: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجِده تُجاهك ..)). الحديث.
فعلى الوالدين ترويض أولادهما على محبة الله - جل وعلا -، ومحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى العبادة الصحيحة، وعلى الفضائل والمحاسن، وعلى احترام الأوامر الشرعية، والانزجار عن النواهي القرآنية، فبالتربية الخَيِّرة تحصُل النشأة الطيبة، وبالتربية السيئة توجد الانحرافات المتنوعة.
وليحذر الوالدان من تنشئة الأولاد على المساوئ، والسلوكيات الشاذة، والعادات القبيحة، فرسولنا - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من مولودٍ يُولَد إلا ويُولَد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه، أو يُنصِّرانه، أو يُمجِّسانه))؛ متفق عليه.
كما أن الإحسان في تربية البنات، والاجتهاد في تأديبهن ورعايتهن وتعليمهن آداب الإسلام وتعاليم القرآن من أعظم أسباب دخول الجِنان، والفوز برضى الرحمن، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من ابتُلِي من هذه البنات بشيءٍ، فأحسن إليهن كُنَّ له سِترًا من النار))؛ متفق عليه، واللفظ لمسلم، وفي رواية: ((من كان له ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، أو بنتان، أو أختان، فأحسن صُحبتهنّ، واتقى الله فيهن فله الجنة))؛ أخرجه أحمد، والترمذي، وابن حبان.
و في التربية الصالحة يجني الوالدان الثمار اليانعة والعوائد الخَيِّرة، رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا مات الإنسان انقطع عملُه إلا من ثلاث))، وذكر منها: ((أو ولدٍ صالحٍ يدعو له))؛ متفق عليه.
بل وحينما تُفقَد التربية الإسلامية، ويُهمِل الوالدان في الإصلاح والتربية، ويُقصِّران في التوجيه والإرشاد يعود ذلك على الوالدَيْن قبل الولد بكل شقاءٍ وأناة، وإلى هذا المعنى يُذكِّرُنا نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - حينما يقول: ((إن من أكبر الكبائر: أن يلعن الرجل والدَيْه)). قيل: يا رسول الله ! كيف يلعن الرجل والدَيْه؟ قال: ((يسُبُّ أبا الرجل، فيسُبُّ أباه، ويسُبُّ أمَّه، فيسُبُّ أمَّه))؛ متفق عليه.
إن التهاون في تربية الأولاد، والتساهل في رعايتهم وفي العناية بهم في أمور دينهم ودنياهم معصية عظمى، وخيانة كبرى، فربُّنا - جل وعلا - يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]، ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - يُعلِنُها دستورًا عظيمًا خالدًا إلى يوم القيامة، فيقول: ((كلُّكُم راعٍ ومسؤول رعيته، فالأمير الذي على الناس راعٍ عليهم، وهو مسؤولٌ عنهم، والرجل راعٍ على أهل بيته، وهو مسؤولٌ عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده، وهي مسؤولةٌ عنهم ..)). الحديث؛ متفق عليه.
ليس اليتيم من انتهى أبواه من همِّ الحياة وخلَّفاه دليلاً
إن اليتيم هو الذي تلقى له أمًّا تخلَّت أو أبًا مشغولاً
ومن إهمال المسؤولية: أن تعهد الأم رعاية أطفالها إلى غيرها من عاملين وغيرهم، ففي ذلك من المفاسد والمخاطر ما يشهد به الواقع، وتُثبِتُه التجارب، فالأم مؤتمنة وربَّة مملكة رعيتها البنات والبنون، والزوج الرؤوم، فلتكن خير مُربِّيةٍ، وأحسن مُؤدِّبةٍ، في ظل طاعة الله - جل وعلا -، وعليها أن تُوجِّه كل اهتماماتها وفكرها ووقتها لفلذات أكبادها، فوراء إخلاصها وحرصها غريزة الأمومة التي لا يمكن أن يقوم بها غيرُها مهما بالغ في أداء الواجب، ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - يُذكِّر فيقول: ((المرأة راعية في بيت بعلها وولده، وهي مسؤولةٌ عن رعيتها))، وقديمًا قال:
الأم مدرسةٌ إذا أعددتَها أعددتَ شعبًا طيبَ الأعراق
ومن مسؤوليات الوالدين: تعليم الأولاد من علوم الدنيا ما تقوم به حياتهم على خير حال مما يُوفِّر لهم حياةً طيبةً هانئةً، كتب عمر الفاروق إلى المسلمين: (علِّموا أولادكم السباحة، والرميّ، والفروسية)).
ومن مسؤولية الوالدين: تدريب الأولاد على ما ينفعهم في حياتهم ودنياهم، ومحاولة تنمية مداركهم وقدراتهم، فربنا - جل وعلا - يقول: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6].
ومن ركائز التربية الصالحة: تعويد الأولاد على فعل الخير، والتحلِّي بالسمات الخُلُقية حتى تصير عادةً لهم في جميع مراحل الحياة.
قد ينفع الأدبُ الأولادَ في صِغرٍ وليس ينفعهم من بعده أدبُ
من ركائزها أيضًا: الموعظة الحسنة، والنصيحة الجميلة بما يُعرِّفهم بحقائق الأشياء، ويدفع بهم إلى معالي الأمور، ربنا - جل وعلا - يقول: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]. الآيات.
من أعظم ركائز التربية وأقوم وسائل الإصلاح: أن يكون الوالد قدوةً حسنةً للأولاد، فليُحسِن الوالدان الفعلَ، وليُجمِّل القول، ولتكن سيرتهما على الهدي المُرتضى، والمنهج الأسمى الذي يُرضِي الله - جل وعلا -، وليكونا خير مثالٍ لأولادهما في حسن التصرُّف والسلوك، رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من قال لصبيٍّ: تعال هات ليُعطِه ثم لم يُعطِه، فهي كذِبةٌ))؛ أخرجه أحمد، فللقدوة الحسنة بالغ الأهمية في عملية التربية والتنشئة، كما ثبت بذلك أدلةٌ من الشريعة ومن قواطع السنة، وقديمًا قيل:
وينشأ ناشئُ الفتيان فينا على ما كان عوَّده أبوه
وفي المثل: كل فتاةٍ بأبيها مُعجَبة، ولهذا فيجب على الأب والأم أن يكونا نعم القدوة في الخير والفضيلة، وأن يكونا مدرسةً عمليةً سلوكيةً لأولادهما في تنفيذ أحكام الشريعة، وسلوك كل طريقةٍ حميدة، ربنا - جل وعلا - يقول: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21]، ومن المقولات المشهورة: صلاح الآباء يُدرِكُ الأبناء، وربنا - جل وعلا - يقول: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82].
ومن أهم ما يجب على الوالدين: اختيار الرفيق الصالح لأبنائهم، أهل الدين والتقوى، وألَّا يترك الحبل على الغارب ليُصاحِبَ الولدُ من يشاء؛ إذ الصديق له أكبر الأثر على صديقه صلاحًا وفسادًا، رسولُنا - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدُكم من يُخالِل))؛ رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وفي (الصحيحين) قال - عليه الصلاة والسلام -: ((مثلُ الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المِسكِ ونافخِ الكِيْر))، وقال عديُّ بن زيد:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمُقارِن يقتدي
وعلى الوالدين أن يصحبا أولادهما بحُسن خُلُقٍ، وسعة نفسٍ، وتمام شفقةٍ مع صفحٍ عن العثرات، وغضٍّ عن المساوئ ما لم يكن إثمًا، أو معصية، وعليهما أن يعرفا أولادهما وما هم عليه من مسلكٍ، ومدخل، ومخرج.
إن التربية المطلوبة هي التربية التي تغرس في الأولاد فضيلةً وتخلق فيهم مُثلاً وفق المنهج المُحمَّدي والهدي النبوي، عن البراء - رضي الله عنه - قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى عاتقه الحسن، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((اللهم إني أُحبُّه، فأَحِبَّه))؛ متفق عليه.
إنها تربية الرفق واللين، والحكم والموعظة الحسنة وفق الموازنة بين الترهيب والترغيب، لا تربية الضعفِ والغِلظة، ولا التساهل أو الشدة المُفرِطة، إنها تربية الإصلاح والاستقامة، لا تربية الإيلام والتنفير والعنف، فالله - جل وعلا - يقول عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله رفيقٌ يحبُّ الرفق))، فيجب أن يكون التوجيه المُوجَّه للأولاد مُقارنًا بالعطف والحنان، ((خيرُ نساءٍ ركِبنَ الإبل: نساءُ قريش، أحِنَّاه على ولدٍ في صِغَره، وأرعاه على زوجٍ في ذات يده))؛ متفق عليه.
إن التربية التي يجب أن يجدها الأولاد لابد أن تكون تربية تنبثق من الرحمة والشفقة التي أمرت بها الشريعة الغرَّاء، جاء في (الصحيحين) عن عائشة - رضي الله عنها وعن أبيها - قالت: قبَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحسنَ والحسين وعنده الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الأولاد ما قبَّلتُ منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: ((من لا يرحم لا يُرحَم)).
اللهم احفظنا واحفظ ذرياتنا بالإسلام، اللهم احفظنا واحفظ ذرياتنا بالإسلام، اللهم احفظنا واحفظ ذرياتنا بالإسلام.