الوقفة الأولى- العنوان .. الواقع ظواهر لغوية
بين يدي الوقفة
إن العنوان هو الموضوع مجملا، والموضوع هو العنوان مفصلا؛ سواء أتى العنوان بعد اكتمال العمل الأدبي وتمام التجربة، أم أتى قبلهما. والعنوان هنا يطابق الواقع بانكساراته المتعددة غير المحصورة، وتشترك علوم اللغة العربية معظمها في كشف واستجلاء غوامضه. وهذا ما سيتم -إن شاء الله تعالى- في هذه الوقفة التالية.
"عد يا هلال لأمتي".. الوعي النازف مع"عد"
هكذا ومنذ البدء، هكذا ومن أول إطلالة، هكذا ومن أول صوت في أول كلمة؛ هكذا نجد وعي الشاعر النازف ألما ودما. كيف؟ "عد" ذلك الفعل الأمر الذي يحسم المأساة؛ كيف؟! إنه يؤكد الغياب ويفرض عصر الأمنية المستحيلة. "عد" إنها افتتاحية مناجاة لشيء عزيز غالٍ لكنه مفقود واقعا رغم وجوده حلما ورجاء!
"عد" إنها العلاقة المأساوية بين شاعرٍ يعيش قضية غائبٍ رمزها، إن اللواء الذي تنضوي تحته الكتائب سجين في أيدٍ ليس للأمة بها طاقة ووسع!! فيا لها من مأساة تلك التي يعيها المتأمل الحالم الراجي!!
إن هذا ليس كل عطاءات ذلك الفعل الموحي، بل هناك العطاءات القائمة على طبيعة الفعل الجوفاء والتي تسببت في حذف جوفه. إن جوف ذلك الفعل" عد" ذهب واختفى لأمر خاجي هو تسكين الحرف الأخير للأمريةالتي سكنته، فلم يعد فيه إلا البدء والمنتهى؛ تماما كهذا الواقع الكئيب، تماما كهذه اللحظة الساقطة بين ماض يمثل البدء العزيز وبين آتٍ يمثل حتمية عودة العز لأمة الهلال! إن اللحظات الانكسارية المعاشة هي الجوف الساقط رغم أننا نتنفس هواءها؛ لكنه هواء برائحة عفن الوهن، هواء أكسجينه وخزات في شرايين الكبرياء الذي لم يعد لدى هذه الأمة المكلومة إلا ذكرى!!
ويزداد تأملنا لهذا الفعل باستجلاء خصائص مكونيه الصوتية؛ فندرك أن "العين" بعمقها في جهاز النطق تحاكي الماضي البعيد العزيز الذي كانت هذه الأمة فيه ساكنة الصدارة بين أممٍ لم تشرق عليها شمس المعرفة!! وندرك أن "الدال" بانفجاريتها وشدتها تمثل ذلك الواقع الضاغط على كل نفس تبغي حلم الخلاص من كابوس ذلك النزف المودي إلى ...!!
ونستمر مع ذات الفعل"عد" قاصدين مادته اللغوية التي توحي بالوجود السابق الزاهي الذي يعطى بائسي اليوم الأمل في إمكان العود؛ فما تحقق مرة يمكن أن يتحقق ملايين المرات!! إنه يطلب رجالا فقط، متى وجدوا كان العود المرجوفي المتناول!!
إن ذلك الفعل المختار من شاعرنا صاحب الحساسية اللغوية الشاعرية المفرطة- فعل موح دال بكل دواله التي تسكنه، إنه فعل وفق الشاعر في اختياره لأبعد درجات التوفيق لأنه يمثل ويحاكي كل ما يعيشه الشاعر من ارتعاشات المفاضلة بين لحظة مقروءة حروفها فخار وعزة ، ولحظات معيشة أنفاسها خزي ودمار!!
"عد يا هلال لأمتي" .. الحاضر الغائب"يا هلال"
الهلال الذي يسكن السماء بعيد بعيد، لكنه يدخل حياة هذه الأمة التي حملته رمزا لها. يدخل حياتهم فيؤثر فيها وعليها ليلا ونهارا وحياة وعبادة. ذلك العَلَم الذي يحوي هذه المكانة التي لا تستغني عنها تلك الأمة لحظة؛ ذلك الهلال العَلَم صار نكرة!! انفصل هلال السماء عن هلال الرمز وصار الرمز نكرة!! كيف يتحول العَلَم إلى نكرة؟ ما أسباب ذلك؟ إنها لأسباب عظام تلك التي تجعل العَلَم نكرة!! إنها الهزيمة الممتدة! إنه الانسحاق اللامنتهي!
لكن هل انتهى الأمر فلم يعد هناك مجال للعودة إلى العلمية؟ لا، إن الشاعر رغم وعيه بواقع اللحظة المعاشة واكتظاظها بالانعدام، رغم ذلك نجده ما زال يحتفظ ببقية قدرة على مواجهة ذلك الواقع الكئيب المحبط! كيف ذلك؟ إنه لم يجعله نكرة محضة لا تتعرف إلا بأشياء خارجية، إنما جعله نكرة مقصودة بالنداء، فأدى ذلك إلى عدم انجرافه مع العدم بعيدا، بل هو مازال في تلك المنطقة التي يمكن لتلك الأمة -لو استعادت أسبابها- أن تعيده.
لقد كان الشاعر رحيما بذلك الهلال الذي مازال ينتظر أمته في ذلك المنعطف غير البعيد بُعد استحالة، إنه ما زال ينتظر من أمته العمل على إرجاعه إلى زاهي عصوره وسابق وشيه المملوء بالانتصارات على أعداء الأمس غير المختلفين عن أعداء اليوم.
لمَ رحم الشاعر الهلال؟ لقد علم الشاعر أن ذلك الهلال غير المرفرف لعجز تلك الأمة التي بلغت الرمال عددا، لكنهم أهمية كانوا غثاء السيل يحملهم التيار السيال الدافق إلى حيث الهامش اللا معاش واللامرئي!! علم الشاعر أن ذلك اللواء يعلو بمن ينضوون تحته ويشمخ، ويهوي بهم أيضا ويسفل، علم الشاعر أن هذا الألم سببه تلك الملايين فلم يعنف الهلال، اكتفى بتحويله من العلمية إلى مجالٍ من النكارة يفزع الغيور ويزلزل حامل هم أمته.اكتفى الشاعر بتحويل ذلك الرمز إلى النكرة المقصودة بالنداء ليدل على أنه متوحد بذلك الهم، فذلك العلم صار معروفا له فقط.
إنها لفتة لمن يعون لعلهم يستشعرون وحشة الشاعر وغربته اللتين دفعتاه إلى مخاطبة غير العاقل المشعرة بالاستحالة النابعة من كون مخاطبة غير العاقل مفيدة التمني الموحي باستحالة التحقيق.إنها لفتة من الشاعر -لمن يعيش ذات الهم- إلى كون ذلك الهلال ذا قيمة غير محدودة لدى الشاعر إذ نزله منزلة العقلاء للدلالة على دوره الفعال، وأهميته في استنهاض همم التغيير. إنه النداء الذي يوحي بثقل الموات واستحالة الحياة؛ فنداء غير العاقل يفيد التمني المشعر بالعجز، لكن مقصودية النداء تخفف من ذلك اليأس وقتامته.
"عد يا هلال لأمتي" .. وسوناتة الأمل" لأمتي"
"أمتي"؛ هل هي الأمة الحاضرة بذاتها؟ أم أنها هي باعتبارها من سيخرج من أصلابها الأمة المقصودة؟لا ندري، إنما ندري أن الشاعر لم يفقد إيمانه بقدرة القوم على ممارسة الفعل الصانع التاريخ. إنهم أمته، ولقد أضافهم إليه؛ فلماذا؟هل يكون ذلك اعتزازا حتى تؤتي دعوته أكلها؟ أم يكون ذلك داعيا لهم لمحاكاته فهو واحد منهم وما زال يعيش الحلم؟ أم يكون إشعارا لهم بأنه يحترم واقعهم رغم ما فيه؛ فالتاريخ لا يعرف البعد الواحد، إنما يعرف الوهاد والنجاد، ومن يصنع النصر قد يصنع الهزيمة!