الخطبة الأولى:
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بهداه، تحظوا برضاه، وينلكم الخير في دنياكم ويوم لقاه.
أيها المؤمنون، ما أحوجنا في هذه الأيام إلى أن نقف على صورة فذة من صور البطولة، علنا ندرك معنى الفوز الذي غمسته أيامنا هذه في لعب لا جد فيه، ولهو لا نفع وراءه، وعلنا نعي معنى الهزيمة التي نتجرعها كل يوم ثم تختزلها أوهامنا في لقاء كروي لا قيمة له، تصرف له الأمة من مقدراتها ودينها وأخلاقها وهي تصدق أنها تنافس في بطولات... إلى سيرة بطل من أبطال الإسلام تحمل سيرته معالم البطولة الحقيقية.
لما انقضت غزاة أحد مرّ رسول الله على الشهداء يتفقدهم، يعرّج على الأجساد الطاهرة، على القلوب الوفية، على من قدموا أرواحهم لنصرة الدين، وبذلوا أنفسهم ثمنًا لجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، مرَّ بهم واحدًا واحدًا، حتى إذا حاذى أحدهم وقف عنده ورفع يديه إلى السماء يدعو له، ثم قرأ قول الله - عز وجل -: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا، ثم قال: ((أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يُسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه)).
كانت وقفةً مؤثرة، ودعوة مؤثرة، وكلمةً مؤثرة، فبين يدي من كان هذا الموقف؟ ولمن كان الدعاء؟ مَن ذلكم الشهيد الذي استوقف المصطفى واستعبره؟ وكيف قضى نحبه ووفّى ما عليه؟
أمّا مَن كان؟ فلقد كان أبا عبد الله مصعبَ بن عمير.
وأما كيف وفّى ما عليه؟ فهلم نسأل سيرته، بطولته، تضحياتِه، ولئن سألنا فلنسمعن عجباً.
تُحدثنا عن مصعب شوارع مكة وطرقاتها، نواديها وعرصاتها، يحدثنا عنه أريج المسك والأطياب، وناعم المسكن والثياب، ولذيذ المطعم والشراب، تحدثنا عنه مكة بأسرها، فتياتها اللواتي طالما تمنينه، وشبابها الذين كانوا يغبطونه على عيشه، أمه التي كانت تدلِّلُه وتلبي له كل مطلب. كلُّ أولاء يحدثون أن مصعبا ألقاهم وراء ظهره وسار إلى الله، ألقى الدنيا بكل أوضار الدنيا، وعلائق الدنيا، وسار يحدوه الشوق، ويدفعه الأمل، ليرقى في منازل المحبين.
لما أسلم مصعب انقلب نعيم عيشه بؤسًا وفقرًا، وحال ترفه جوعًا ونصبًا، لكنه لم يكترث فكل شيء لله يهون.
إذا صحَّ منك الودُّ فالكل هينٌ ** وكلُّ الذي فوق الترابِ ترابُ
فليتك تحلو والحياةُ مـريرةٌ ** وليتك ترضى والأنامُ غضـابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ ** وبيني وبينَ العالمـينَ خـرابُ
أقبل مصعبُ يومًا بعد أن صار إلى ما صار إليه بعد إسلامه، أقبل عليه نمرة قد وصلها بإهاب يستر بها بدنه النحيل، فرآه أصحابُ النبي، فنكسوا رؤوسهم رحمةً له، ليس عندهم من الثياب ما يقدمونه له، ولمن تراهم يقدمون لو كان عندهم ما يقدمون؟! إنهم يقدمونه لمن كان يومًا أنعم قريش عيشًا وأعطرهم، وهو اليوم يُرحم لحاله!!
أقبل مصعبُ فسلم، فرد حبيبه السلامَ وأثنى عليه، وقال: ((الحمد لله يقلب الدنيا بأهلها، لقد رأيت هذا -يعني مصعبا- وما بمكة فتى من قريش أنعم عند أبويه نعيماً منه، ثم أخرجه من ذلك الرغبة في الخير وحب الله ورسوله))، وعن علي قال: "إنا لجلوس مع رسول الله إذ طلع علينا مصعب بن عمير، ما عليه إلا بردة له مرقوعة بفرو، فلما رآه بكى للذي كان فيه من النعمة والذي هو اليوم فيه، ثم قال: ((كيف بكم إذا غدا أحدكم في حلة، وراح في حلة، ووضعت بين يديه صحفة، ورفعت أخرى، وسترتم بيوتكم كما تُستر الكعبة))، قالوا: يا رسول الله، نحن يومئذ خيرٌ منّا اليوم! فنفرغ للعبادة ونُكفى المؤونة، فقال: ((لأنتم اليوم خير منكم يومئذ)).
لقد صار مصعب مَثَلًا يُضرب في الزهد والفقر وقلة الحال، بعد أن كان غاية في الترف ورغد العيش يرنو إليها فتيان مكة، لذا قال عمر بن الخطاب يومًا وقد رآه: (انظروا إلى هذا الرجل الذي نور الله قلبه، لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، ولقد رأيت عليه حلَّةً اشتريت له بمائتي ألف درهم، فدعاه حبُّ الله ورسولِه إلى ما ترون).
نعم، حب الله ورسوله إذا ملأ قلب العبد هانت في عينه الدنيا وصغرت، فما يبالي ما أقبل منها وما أدبر، ما يبالي افتقر أم اغتنى، صحَّ أم مرض، شبع أم جاع، لا يهمه شيءٌ من ذلك لأن همّه وشغله: "إن لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أبالي".
لما أسلم مصعب لم يكن بلاؤه في انتزاعه من حياة النعيم التي ألفها فحسب، بل تعرض لألوان من البلاء، حلفت أمه أن لاّ تأكل ولا تشرب ولا تستظل حتى يرجع عن دينه ويترك محمدًا، غير أن الإيمان يأبى عليه ذلك، يأبى عليه أن يبيع النور بالظلام والهدى بالضلال، فثبت على دينه حتى كادت أمه تموت وإنه لغير مكترث، أخذه قومه فقيدوه بالأصفاد وحبسوه حتى تغير لونه، ونحل جسده، ونهك جسمه، وإنه لغير مكترث، الكل وقف في طريقه ولكنه مضى، مضى يجرُّ قدميه فوق الشوك، يعالج طريق الجنة التي حفت بالمكاره، يبتسم للبلاء لأنه في سبيل الله وكفى، ظل يتجرع مر البلاء بمكة، فلما سهل الله الفرج هاجر إلى الحبشة، فترك وطنه، وودع حبيبه رسولَ الله فارًا بدينه، مع مَن كتب الله له الهجرة مِن المؤمنين.
وفي الحبشة مأمن الفارين بدينهم مِن عنت قريش، بلغهم أن قريشًا هادنت المسلمين وتركتهم وما يريدون، فشد مصعب رحله وعاد فيمن عاد، فإذا قريش لا كما يعرفونها كفرًا وغيًا، بل أشد شراسة وأنكى حقداً، ولا سبيل إلا أن يرجع الركبُ أدراجَه، فرجع مصعب فارًا بدينه مع أهل الهجرة الثانية إلى الحبشة.
وتمضي الأيام ويعود مصعب إلى مكة مشتاقًا إلى رسول الله، وليشهد هذه المرة محنة الحصار في الشعب، وفي الشعب صبر مصعب وصابر، حتى أنهكه الجوع والعطش فخارت قواه، فصار لا يقدر على المشي، فكان المسلمون يحملونه على أكتافهم.
وبعد أعوام تأتي طليعة الأنصار الأولى لتسلم وتبايع البيعة الأولى، فيبعث رسول الله معهم أول سفير في الإسلام أبا عبد الله مصعب الخير معلمًا وداعية وإمامًا، وفي عام واحد تسلم المدينة كلها إلا من شاء الله، تسلم على يد مصعب سادةً وأتباعًا، صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً، الأنصار كلهم حسنة في ميزان مصعب، ومن الأنصار؟! إنهم الذين لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، بطانة المصطفى، وحماة الإسلام، على أكتافهم قام ومن أرضهم سارت جحافله، إنهم المرحومون، المرحوم عقبهم بدعوة المصطفى، أولئك هم تلاميذ مصعب وغنيمته.
وبعد أن قضى مصعب مهمته في المدينة، بعد أن جادل أهلها ودعاهم ورباهم، فأتم ما أُرسل لأجله، ما تراه صنع؟ هل انتظر مقدم النبي مع الأنصار الذين ينتظرونه؟ هل كانت فرصةً لإجازة يتخفف بها من عناء العمل، أو يلتفت إلى همِّ نفسه وأهله، أو لعله يتنسك ويتفرغ للعبادة؟ كلا. فما لأجل هذا خرج ولا بذل ما بذل، لقد فعل ما فعل لله، خرج ليعمل لله شيئًا فلما قضاه لم تقطعه راحةٌ وهو يسعى إلى الراحة الكبرى، التي لا تُنال إلا على جسر من التعبِ، بل عاد ليعمل لله شيئًا آخر، عاد إلى مكة، إلى أرضِ البلاء والمحنة، لتنعم عيناه برؤية رسول الله، ويسعد بصحبته، وليكون في طليعة المهاجرين حين أُذن لهم بالهجرة. فيا لله ما أعظمها من همة! لم تكفه هجرةٌ ولا اثنتان، بل أربع هجرات: ثنتان للحبشة وثنتان للمدينة. فهل وفى أبو عبد الله ما عاهد؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً.
أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لاّ إله إلا الله تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
أما بعد: فلقد ضرب لنا مصعب أروع الأمثلة في الولاء والبراء، فإنه لما أسلم قعدت له أمه كل مرصد، وبذلت كل ما للأم عند ابنها ليعود في الكفر بعد الإيمان، فلم يلتفت إليها، بل ثبت على دينه، وعادى كلَّ من عادى الله ورسوله، ولم تكن تلك حماسة الإيمان أول ما يتحرك في النفس فحسب، بل ظلت حرارة الولاء والبراء في قلبه حتى لقي ربه، ففي غزوة بدر مرّ مصعب بأنصاريٍّ قد أسر أخاه، ابنَ أمه وأبيه، فقال مصعب لما مر بهما يوصي الأنصاري بأخيه: شُدَّ يديك به؛ فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك، فقال أخوه: هذه وصاتك بي يا أخي؟! فقال مصعب يشير إلى الأنصاري: إنه أخي دونك.
أما شجاعته فأيُّ شيء ينتظر من جندي فذٍّ من جنود الإسلام السابقين أستاذه محمد وشعاره: إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ ورتبته: وَاللهُ مَعَكُم؟!
تعالوا -أيها الأحبة- نقف على المحطة الأخيرة من حياة هذا البطل، غزوة أحد، وأي شيء غزوة أحد؟! إنها الفصل الأخير من مشهد البطولات والتضحيات في حياة مصعب الخير، فلقد حمل الراية يومئذٍ، وقد حمي الوطيس، والتحمت الصفوف، وصالت السيوف، فما اهتزت في يده، سقطت راية قريش سبع مرات، تأخذها يدٌ بعد يد، ورايةُ حزب الله ثابتة في كف أبي عبد الله.
لما شاع في الناس مقتل رسول الله وانكشف منهم من انكشف ثبت مصعب مع الثابتين، وأقبل يحمل الراية يردد قول الحق تبارك اسمه: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ.
فتقدم إليه عدوُّ الله ابن القمئة يبارزه، واشتد القتال بينهما، فأهوى ابن القمئة على يمنى مصعب فقطعها، فتناول الراية بيسراه فقُطعت، فاحتضنها بين جنبيه، فحمل عليه عدو الله الثالثة فأهوى بالرمح على جسده الشريف الطاهر، فخرَّ على الأرض صريعًا، وشاع في الناس أن رسول الله قد قتل، فقد كان مصعبُ من أشبه الناس به.
وهكذا قضى مصعب الخير نحبه، باع الدنيا ففاز بالآخرة، وقدم الرخيص فظفر بالغالي، سقط جسده على الأرض وحلقت روحه إلى بارئها، شاط في دمائه الزكية ويُبعث يوم القيامة يثغب جرحه دمًا، اللون لون الدم والريح ريح المسك.
فتًى ماتَ بين الضربِ والطعنِ ميتةً ** تقومُ مقـامَ النصرِ إنْ فـاتَه النصـرُ
وما ماتَ حتى ماتَ مضربُ سيفِـه ** من الضـربِ واعْتَلتْ عليهِ القنا السُمر
ألا في سبيـلِ اللهِ مَـنْ عُطلتْ لـهُ ** فجـاجُ سبيــلِ اللهِ وانثغـرَ الثغــرُ
تردَّى ثيابَ الموتِ حُمرًا فما دَجـى ** لهـا الليـلُ إلا وهي من سندس خُضر
ثوى طاهرَ الأردانِ لم تبقَ بقعــةٌ ** غداةَ ثوى إلا اشتـــهتْ أنهـا قـبرُ
عليــكَ سـلامُ اللهِ وقفـا فإنـني ** رأيتُ الكـريمَ الحُـرَّ ليـسَ لـه عُـمْرُ
قال خباب: هاجرنا مع رسول الله في سبيل الله نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنا من قضى ولم يأكل من أجره شيئاً منهم مصعب بن عمير، قُتل يوم أحد فلم نجد ما نكفنه به إلا نمرة كنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه، فقال: ((اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه شيئًا من الإذخر))، ومنا من أينعت ثمرته فهو يهدبها.
لقد ذهب مصعب ليلقى جزاءه عند رب شكور، طلّق الدنيا فتلقفته الجنة عجلى مشتاقة إليه، رحل مصعب ولم ترحل ذكراه ولا ذكرى بطولاته ولا ذكرى تضحياته من قلوب أصحابه أصحاب محمد، فهذا عبد الرحمن بن عوف بعد مر السنين يؤتى بإفطاره يومًا وكان صائمًا، فلما أُدني منه بكى وقال: قُتل أخي مصعب بن عمير وهو خيرٌ مني، كُفِّن في بردة إن غُطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت رجلاه بدى رأسه، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا.
وأيُّ شيء ترانا نقول إن كان ابن عوف وهو المبشر بالجنة يقول ما يقول؟!
اللهم ارحم مصعبًا وألحقنا به في ركاب محمد، وجدد في هذه الأمة بطولات أولئك الأبطال المرضيين، واجمعنا وإياهم مع حبيبك سيدنا محمد في أعلى عليين