السلام على من اتبع الهدى. أما بعد:
نشأ عيسى - عليه السلام -، بين اليهود، وعلمه الله التوراة، وآتاه الإنجيل، فكان نبياً، رسولاً. وناظر الكتبة، والفريسيين، ووثق الشريعة التي جاء بها موسى، - عليه السلام -، قبله، وخفف عن بني إسرائيل بعض المحرمات التي كانت عليهم. وخالط الناس، وتقلب في مدنهم وقراهم، ودعاهم، وعلمهم، ووعظهم، فأحبوه، واتبعوه. وأجرى الله على يديه آيات باهرات، منها:
1) كان يصور من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه، فيكون طيراً بإذن الله!
2) كان يبرئ الأكمه، والأبرص، فيمسح عليهم، فيعودون أسوياء بإذن الله!
3) كان يقف على الميت، فيناديه، فيقوم حياً بإذن الله!
4) كان يخبر الناس بما يأكلون، وما يدخرون في بيوتهم، من أسرار بإذن الله!
وقد كانت هذه الآيات المدهشة ضروريةً لإقناع اليهود الذين قست قلوبهم، وطغى عليها حب الدنيا من جهة، والخوف من الحاكم الروماني، من جهة أخرى، بأنه رسول من عند الله. إلا أن الناس انقسموا حيال هذا النبي الكريم إلى ثلاثة أقسام:
1) قسم كذبوه، ورفضوا الإيمان به، واستكبروا عن اتباعه، وأنكروا الآيات الباهرات التي صاحبت ولادته، ورسالته، بل ووصموه بألقاب السوء، ورموا أمه العذراء البتول بالبهتان والفجور، وسعوا في قتله، والوشاية به لدى الحاكم الروماني (بيلاطس) زاعمين أنه يسعى لإقامة مملكة داود، على أنقاض الدولة الرومانية. وهؤلاء هم كفرة اليهود.
2) قسم بُهروا بما أجرى الله على يديه من الآيات، وغلوا فيه غلواً عظيماً، فاعتقدوا أنه الله! أو أن فيه جزءٌ لاهوتي، وجزءٌ ناسوتي! ثم صاغوا هذا الاعتقاد الفاسد بصيغة فلسفية معقدة، في أوقات لاحقة، بنظرية (التثليث)! وهؤلاء هم ضلال النصارى.
3) وقسم آمنوا به وصدقوه، واعتقدوا أنه رسول نبي، وبشر سوي، مؤيد من عند الله بالآيات التي على مثلها يؤمن البشر. وأن الله أوحى إليه، كما أوحى إلى سائر أنبيائه، فليس فيه شيءٌ من خصائص الألوهية أو الربوبية، بل هو عبد الله ورسوله، وكلمته التي ألقاها إلى مريم العذراء البتول الطاهرة. وهؤلاء هم الحواريون المؤمنون، والتلاميذ الصادقون.
لقد كان عيسى - عليه السلام -، آية من آيات الله، وكان كتابه (الإنجيل) هدى، ونوراً، وموعظةً للناس، وكانت رسالته حلقة وصل بين رسالات الله - تعالى -، فهو:
أولاً: مصدقٌ لما بين يديه من التوراة، ومؤكد للناموس الذي جاء به أخوه موسى - عليه السلام -، مع ما بعثه الله به من التخفيف والرحمة.
وثانياً: مبشرٌ برسول يأتي من بعده، اسمه (أحمد) أي (محمد) يختم الله به الرسالات، ويجمع عليه الناس، ليكونوا إخواناً في دين الله الواحد، لا تفرقهم عصبيات، ولا قوميات، ولا لغات، ولا أوطان. فرب الناس واحد، ودينه واحد، ودعوة رسله واحدة، فينبغي أن يكونوا على قلب إنسان واحد