السلام على من اتبع الهدى. أما بعد:
فقد كانت مريم ابنة عمران، - عليها السلام -، من النساء الكاملات، والعابدات القانتات. نشأت نشأةً إيمانية، وتربت تربيةً راقية، في بيت علم، ودين من بيوت بني إسرائيل. وقد نذرتها أمها مذْ كانت حملاً في بطنها، لخدمة بيت المقدس، فترعرعت في الطهر والعفاف، والعبادة والتبتل، وأجرى الله لها العديد من الكرامات.
وكانت أعظم كرامة أكرمها الله بها أن بعث إليها الروح القدس، أثناء خلوتها، ففزعت منه، لما جبلت عليه من الحياء الفطري، والحرج الديني، لكنه طمأنها أنه رسول من عند الله ليهب لها غلاماً زكياً، فنفخ فيها نفخة قدسية، فاستقرت في رحمها، وخلق الله منها عيسى - عليه السلام -.
لقد كانت مريم، - عليها السلام -:
1- صدِّيقة، بلغت الغاية في التصديق بكلمات ربها وكتبه، والثقة بموعوده.
2- عفيفة، قد أحصنت فرجها، بريئة من كل ريبة.
3- إنسانة كسائر الناس، تأكل الطعام، قانتة، عابدة، بتول.
ولم تكن مريم، - عليها السلام -، أبداً:
1- لا محل تهمة، كما بهتها كفرة اليهود، ووصموها بألقاب السوء.
2- ولا تتصف بشيءٍ من صفات الربوبية، كما زعمت بعض الفرق النصرانية، مثل (البربرانية) التي ظهرت في القرن الرابع الميلادي.
3- ولا إلهاً، يستحق العبادة من دون الله، ويتضرع إليه بالدعاء، وتطلب منه الشفاعة عند الله، كما يفعل عامة المسيحيين اليوم. وهذا هو معنى اتخاذها وابنها إلاهين من دون الله، كما جاء ذكره في القرآن الكريم، في قوله - تعالى -: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلاهين من دون الله، قال سبحانك! ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق، إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب. ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم) المائدة: 116-117
إن لعيسى ابن مريم، وأمه منزلة عظيمة في قلوب المسلمين. وهم يذكرونهما دوماً بأجمل الصفات، وأزكى العبارات، دون أن يخرجهم ذلك إلى أي لونٍ من ألوان الغلو، والشطط. إن المحبة الحقيقية لهذا النبي الكريم، وأمه الصِّدِّيقة، أن ننزلهما المنزلة التي أنزلهما الله إياها، فلا نغالي في وصفهما، ولا نخلع عليهما صفات الربوبية، أو نتوجه إليهما بأي نوع من أنواع العبادة، فنقع في الشرك الذي يمقتانه، كما لا نجفوهما، وننال منهما، كما يفعل الكفار من اليهود.
ألا ما أجمل العدل والإنصاف والتوسط، فإنه الموافق للعقل السليم، والفطرة السوية، والأخبار الإلهية الصحيحة. والله الهادي إلى طريق الحق.